<BLOCKQUOTE>
<BLOCKQUOTE>
ثنائيات بديعة تعانق مفردات كونية
ملاحظات نقدية حول ديوان " اشتعال الرمق "
لـ محمد عبدالرحمن الحفظي
بقلم الأستاذ / طارق حسان
</BLOCKQUOTE>
الشاعر محمد عبدالرحمن الحفظي من شعراء جيل الثمانينيات بالمملكة العربية العربية السعودية ، له صوت شعري مميز ، عبّر عنه بديوانه الأول " قصائد من الجبل " الصادر في العام 1984م وهو ديوان مشترك وضع الحفظي على الساحة الشعرية ، ثم أكد صوته بحيث أصبح إنتاجه ضمن المشهد الشعري في المملكة منذ حقبة الثمانينات بديوانين آخرين هما : " لحظة يا حلم " و " أولى تجاوزات .. لا " وقد أصدرهما في عامي 1984 و1987م على الترتيب ، أما ديوانه الرابع فهو " غبار الجسد الباقي " والذي أصدره الحفظي في العام 1992م .
وقد صدر لشاعرنا ـ مؤخراً ـ ديوانه الخامس الذي حمل عنوان " اشتعال الرمق " عن نادي أبها الأدبي .. الذي نحن بصدده .
يقول الشاعر في مستهل ديوانه :
" لقصة مجردة ..
حملتها من سابع الحلم الذي
قرأته لصورة محددة ..
لرحلة لن تنتهي .. لنبرة مجردة
طويتها في أضلعي سر وجود شفّها
مليحة ومفردة
فلا لقيت طيفها .. ولا بقايا عطرها
لأنها مبتعدة
أسأل .. من يدلني إلى طريقها البعيد
لعلها تكملني
بين الحروف المنشدة " .
لقد جرت العادة أن يستهل المؤلف كتابه بإهداء يتوجه به إلى أحد أقاربه أو رفاقه أو بعض المثقفين لكن القارئ سيباغت حينما يعلم أن هذا ( النص ) هو ( الإهداء ) الذي افتتح به الشاعر ديوانه .. ولا غرو أن يأتي هذا الإهداء في صورة نص شعري متدفق تتآزر فيه الصور وتتضافر لتشكل مشهدا شعرياً مكثفا ، يعبر عن جديلة فنية ملفتة ، هي في حقيقتها إحدى الجدائل الفنية التي ساهمت في تشكيل العالم الشعري للحفظي .
ولا غرو ـ أيضاً ـ أن يأتي هذا النص تفعيلي الإيقاع فقد وحدت موسيقاه تفعيلة بحر ( الرجز ) والشاعر تشهد قصائده تمكنا كبيرا من موسيقى الشعر العربي .
في هذا الديوان يخرج علينا الحفظي بتجربة شعرية يتنوع فيها الشكل الشعري بين العمودي والتفعيلي .. وهذه مسألة سوف نتطرق لها فيما بعد . وأما الديوان فهو يُمثل تجربة ثرية بفضاءاتها الرمزية والدلالية بما ترتكز عليه من معانقتها للطبيعة ومحاورتها المستمرة في ثنائية بديعة يتضافر فيها صوت الشاعر وهمومه الذاتية مع مفردات الطبيعة الكونية .
" أعود إلى البحر ..
علّ الهدير بأمواجه
يذكر القابعين على رمله
ليطيل النقوش التي تحتوي موطن الذكريات
عله يسأل الليل على أحرف ضمها السمر الساحلي "
هذا المقطع ، رغم قصره ، إلا أنه تميز باحتشاد زاخم للصور التي عمل الشاعر على أن ينتج عن تجاورها اكتمال الدائرة الحسية في مخيلة المتلقي .. موظفاً مفردات تشكل علاقاتها ببعضها بنيبة صورية ناضجة فهو ـ أي الشاعر ـ حينما يبدأ مفردة ( البحر ) ـ في أول المقطع يجاورها بصورة ( القابعين على الرمل ) وكلمة ( النقوش ) بأثرها الحسي وارتباطها في ذهن القارئ بالماضي والذكريات الرومانسية ، يقابلها بـ ( موطن الذكريات ) وكذلك صورة ( الليل ) بما تنطوي عليه من دلالات وصور جديدة يختار منها الشاعر صورة " السمر الساحلي " لترتبط بشكل مباشر بالبحر والأماسي والذكريات والأمواج ليشكل مشهدا شعريا بديعا .
وفي قصيدته الطويلة " البدء .. نحو الآخر " وفي مواضع كثيرة من الديوان نجد الأرق الذي تعانيه الذات الشاعرة التي تسعى إلى خلاصها يقول مثلاً :
" غادرتني التآويل منذ التصاق النظر ..
كيف أنجو إلى بارق لم يدم في هدير السماء
ولم يلتحف غير وأد الحطام " .
وهنا تعبر الذات عن خوفها من طبيعة الكون اللامستقرة ، في حالة إذا ما استطاعت النجاة من الواقع إلى هناك .
فالشاعر يرى أن مكان النجاة نفسه غير مأمون فالديوان يفيض بالصورة الشعرية الناضجة والثنائيات اللغوية البكر . والديوان تعيدنا بعض قصائده إلى صفاء الشعر وعذوبته فالشعر عنده :
" هل يختفي في الضلوع الكسيرة ..؟؟
أم يرتمي في احتضار الكلام ؟؟ "
فللشعر أبوابه المشرعة
وللشعر ليل يضيء الحروف "
" فكم ينبض الشعر بالاحتراق ..!!
يكمم مواله بالصعود إلى شاطئ لا تراه العيون ..
فيكتب جرحا في الارتماء ..
يسافر في كل صوت بعيد ..
يشج البكاء ..
ويفري أصابعه في الجوى
ويأتي كبيرا كصمت الرجاء .. "
تشكل هذه المقاطع المتفرقة العالم الشعري لشاعرنا ، وتختزل معجمه الشعري القائم على اصطفاء مفردات الطبيعة والكون إذ لا تخلو قصيدة من هذه المفردات أو دوائرها " الليل ، الحطام ، البحر ، السماء ، الذكريات ، الحروف ، المسافات ، النهار ، الحلم ، الروح ، الرحيل ، الجرح ، الموت ، البوح ، الرحيق ، الصهيل ، الدم ، الخيال ، الفؤاد ، الضلوع ، السراب ، الموت ، الغروب .. الخ .
والحق أن " اشتعال الرمق " الذي يشهد تمكن شاعره من الأوزان الخليلية واعتماده عليها بشكل رئيسي ، يشكل مأزقاً عظيماً لقارئه قد يوقعه في التباس لا يستطيع معه أن يبدي رأياً واضحاً في قصائده .. لذلك فقد جنحنا إلى إجمال ملاحظاتنا في عدة نقاط :
أولاً : اشتمل الديوان على 30 قصيدة بينها سبع قصائد تفعيلية ، والباقي عمودية .. وجميعها تشكل باكورة إنتاج الشاعر الذي أصدر من قبل أربعة دواوين ـ كما سبق وأسلفنا ـ فقد أنجز قصائد الديوان بين عامي 1413 و1417هـ باستثناء قصيدتين كتبهما الشاعر في عام 1418هـ وقصيدة واحدة كتبت في العام 1412هـ أي أن مجموعة القصائد هي أحدث ما أنتجه الشاعر .. وهنا يتبادر سؤال : ما موقف الشاعر المعاصر الذي يكتب في نهاية القرن العشرين من المتغيرات الجمة الجارية على مختلف الأصعدة .. والتي أدت إلى إنتاج أشكال شعرية مغايرة ؟
ثانياً : إذا كانت الكلاسيكية لا تعني التقليد ، التبعية ، القافية ، الوزن ، وإنما هي النتاج الشعري الذي حقق ذروة شعرية لا تستنفد كما يرى " أدونيس " كذلك فإن الشكل الشعري لا يمثل بالنسبة لنا إشكالية ما ، ذلك أننا مع هذه الذروة الشعرية في مختلف أشكال الكتابة ، سواء كان هذا الشكل هو العمودي أو التفعيلي ، أو النثري .. لكن شاعرنا لم يحقق ذلك في قصائده وخاصة العمودية التي تتفاوت كثيراً في مستواها الفني ، فقصيدة " دمعة للأسى " على سبيل المثال ـ تحتشد فيها صور البلاغة من تشبيه وكناية واستعارة ... الخ وتشكل الصورة الشعرية بأبعادها المختلفة عالم النص ..
" كيف تنداح حشرجات المسافات
ويندى بريقها باللحـــــــــــــاق "
وأيضاً :
" دمعة البحر سندس يتلاقــــــى
تجفل الصمت ما استقر ولاحـــــــا
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة :
حيرتي يتبع السراب مداهـــــــــا
أي شوق على السراب يسيــــــــل
وفي قصيدة " وداع الأزمنة " يقول :
ألوم كل غروب ظل يشهدنــــــي
ألا يشقق ما في شمســـه وردا "
وهناك أيضاً قصيدة " هتاف " بجانب ذلك بدا الحشو واضحاً في قصائد كثيرة تفاوتت في مستواها الفني خاصة بالمقارنة بقصائد " دمعة للأسى " ، " وداع الأزمنة " من مثل قصائد :
(8 ، أنا والآتي ، المحارة ، اللحاق ، أم الجميع ، لؤلؤة من عقد العمر ) فهذه القصائد تقليدية البناء والمفردة والأجواء والتراكيب وحتى في تشكيل الصورة الشعرية .
يقول في قصيدة ( أم الجميع ) :
" تركت في مهج الباكين ما ذبحــا
ومن شظايا الدموع الجمر صوت رحى
يكتف الحزن آفاقا يجيش بهــــــــا
هذا العزاء بما وارى وما نفحـــــــــا "
وأيضاً :
" فجعت فيك .. وما قد كنت أحسبني
أطوي اللقاء إلى مستقبل نزحـــــــــــا
فجعت فيك .. كأن الكون يعصرنـــــي
طفلاً يشيح ووقعا مؤلما رزحـــــــا "
" وليت وارفة يحنو على وهنــــــــي
وليت .. يجبره كسري وقد كبحــــــــا
ورثت فاجعة الأيام أهرقهــــــــــــــــا
وبالدموع صهيل الصمت كم سفحا "
إن غلبة القصائد العمودية في الديوان لا تعد عند الحفظي في " اشتعال الرمق " مجرد شكل أو قالب يصب فيه الشاعر تجاربه أو أن يعبر من خلاله عن هذه التجارب إنما تصبح الكتابة لديه تقليدية على مختلف المستويات .
وذلك بغض النظر عما تطرحه هذه الكتابة من تساؤلات عديدة حول موقف الشاعر من التطورات المطردة على مختلف الأصعدة ، وهل الشاعر يعيش في خضم هذا الواقع بمتغيراته ، أم يكتب بمعزل عن ذلك ، خاصة إذا كان الشعر العربي مر بكثير من المراحل والمنعطفات الأساسية التي أدت إلى تغير جذري في بنية ومحتوى وإيقاع القصيدة العربية .
ثالثاً: على الرغم من قلة القصائد التفعيلية في الديوان ( 7 قصائد ) فقط إلا أن أغلبها تميز بنضج فني قلّ أثره في كثير من القصائد البيتية ، ففي قصيدة " البدء .ز نحو الآخر " تجد العديد من الجمل الشعرية البكر والإفادة من بنية الاستطراد وتوظيف بنية السؤال يقول الشاعر :
" أقتفي آخر الحلم ..
أصدح من آخر الروح ..
يا ويح هذا الطريق !!
كيف غادرني دون أن يسم الوقت ؟؟
أو يأنس الانتظار ؟؟
وفي نفس القصيدة أيضاً :
" ما لهذا التحول ..
قارب أن يكمل الالتفاف ؟
على جسدي الناحل المستغيث !
وقارب أن ينبش البوح في الأوردة "
وبالإضافة إلى " البدء نحو الآخر " هناك أيضاً قصائد " مسافة للرجوع ـ وهج لتفاصيل البكاء ، ختام ، فهذه قصائد بها طزاجة الشعر ودهشته ، أما قصائد " الوهن ـ كان ـ الخطو نحو اللهاث " فهذه لا تختلف كثيراً في صورها وتراكيبها الشعرية على القصائد البيتية التي أشرنا إليها .
رابعاً: تشكل الأنثى القاسم المشترك لكثير من القصائد ـ مثل : " لؤلؤة من عقــد العمر ، اعتراف ، يائسة ، تداعيات الحبر ، غوص ، المنعطف ، هتاف ، وداع الأزمنة ، مسافة للرجوع ، اشتعال الرمق ، الثلج والمجيء ، اللحاق ، أم الجميع ، 8 ، أنا والآتي ، المحارة ، البيد وحروفي ، جراح تشرب " بالإضافة إلى قصيدة كتبها الشاعر للوطن ، هي " نبض الوطن " على الرغم من أن الأنثى في الديوان تأخذ صوراً متعددة ( الأم ، الحبيبة ، الأرض ) .. الخ إلا أنها ـ باعتبارها تشكل الهم الأول الذي يؤرق أو يسيطر على الذات الشاعرة في نحو ثلثي قصائد الديوان .. تشير إلى أن رؤية الشاعر تقف عند هذا الهم أو الطرح ، الذي تجاوزته القصيدة العربية منذ زمن وأصبحت القصيدة تتحرك في مناح أخرى أكثر التصاقاً بالواقع المتغير دوما وبمفردات الحياة اليومية وتفاصيل المعاش .
ولا أدعو هنا إلا إلى شعرية صادقة تعبّر عن حياة الإنسان المتلقي الذي يتوجه إليه الشاعر بقصائده في المرحلة الراهنة .
خامساً : تحيلنا النقطة السالفة إلى مسألة أخرى هي ضيق المعجم الشعري للشاعر والذي يقف عند مفردات الطبيعة الكونية ويشكل بصورة رئيسية العالم الشعري للحفظي ، وقد ينتج هذا القاموس الشعري عن وقوف تجارب الحفظي عند محاورة قصائده للطبيعة وللأنثى دون سعي لمحاورة الهموم الشخصية أو الواقع ، فهذه أصبحت تُشكل القصيدة العربية المعاصرة في مختلف قوالبها وأشكالها في الوطن العربي بأكمله .
</BLOCKQUOTE>
موضوع: قاسيد اصيله 
السبت مارس 06, 2010 2:43 pm
